رسالة مفترضة.. أو متوقعة من أسير فلسطيني!

بقلم: نصار إبراهيم

صباح الخير علينا... وأيضا... عليكم،
نحن الأسرى... هنا... صباح الخير علينا... والعين لا تفارق فسحة الأمل.. من عتمة الليل تصعد الآآآآه من أعماق الروح.. تنسلّ مع شفق الفجر.. تداعب قطرات الندى الأولى تشعّ على شجرة زيتون، صبار، ولوز... في العيون وميض حزن، ألم، عتب، غضب، وإرادة مقيمة عند حدود السماء..
يا طير الوعد حلِّق ما شئت في فضاء زنزانتي، ومُرّعلى النائمين على أبراشهم،  مُرّ برقّة النسيم على وجوههم، امسح جباههم واحدا واحدا، وبحنان أنهضهم..إهمس برفق:  قم يارفيقي، إنهضي يا أختي،  يا أخي .. صباح الخير علينا هنا.. صباح الخير يا وطني وأنت قريب وبعيد.. من هنا، مع إشراقة البرش ندعوكم هذا الصباح على فنجان قهوة بما تيسر من بُنّ قديم أخفيناه  لهذه المناسبة.. 17 نيسان..
لا أريد أن أفسد عليكم قهوة الصباح ولحظتها، أحوالنا هنا جيدة.. نعم هنا..! في النقب، بئر السبع، عوفر، مجدو، الرملة، كيدار، نفحة، رامون، ديكل، شيكما، أيالون، أوفيك، ماجن، نيفي تيرتزا، كفار يونا، عتصيون، بيت إيل، نيتسان، غيفعون، هاداريم، هاشارون، ريمونيم، بتاح تكفا، حرمون، شطا، غيلبوع، الجلمة (كيشون)، الدامون، الكرمل، طبريا، تل أبيب..هل تذكرون هذه الأسماء والعناوين، إنها مكان إقامتنا وتفاصيلنا الصغيرة والكبيرة، إنها خزان ذكرياتنا، هل لا زلتم تذكرونها! هنا نمضي ليالينا ونهاراتنا، صيفنا وخريفنا وشتاءنا، بانتظار ربيع سيأتي.. وربما... قد يتأخر!.. لا تحزنوا كثيرا أو قليلا،  فأحوالنا أكثر من رائعة.. اشربوا قهوتكم على مهلكم.. فلا زال أمامنا عمر طويل.. لا بأس بعشر سنين أخرى، عشرين سنة، ثلاثين سنة، أربعين سنة، نصف قرن آخر نمضيه هنا على أبراشنا البهية.. بمقدورنا الانتظار.. فلن نخسر شيئا من عمرنا.. نعم هكذا والله!..فما أن يخرج أحدنا حتى يعود لعمره يوم لحظة اعتقاله..  من أينعت شواربه ولحيته هنا سيختفيان من جديد ويعود يافعا عفيّا يقفز كغزال رشيق، ومن شاب على البرش انتظارا سيغادر الشيب رأسه بذات البساطة التي جاء بها، ومن انحنى ظهره سيستقيم من جديد كعود الخيزران، ومن فقد بصره سيرتد إليه بصيرا كيعقوب عليه السلام.. ومن لم يكن لحظة ولادة طفله الأول سيستعيدها، ومن لم يختبر سنوات مراهقة  ابنته  وتغير ملامح جسدها سيعيشها من جديد وسيمارس هواية الوالد في ضبط إيقاع النضوج.. إذن لا عليكم.. فأحوالنا على خير ما يرام، فلا تقلقوا ولا تخفضوا أنظاركم حياء أو خجلا  أو نفاقا.. لا بأس عليكم قادة، أحزابا، مؤسسات، رؤساء، ملوكا، منظمات دولية.. لا بأس عليكم، فقط اشربوا قهوتكم هذا الصباح بهدوء وانصرفوا.. دعونا نتابع روتين سنوات اعتقالنا الماضية.. وسنوات اعتقالنا القادمة.. وانصرفوا.. فقط اتركوا لنا بعضا من قهوة.. فهناك أخوة ورفاق ورفيقات وأخوات في الحجز الإنفرادي أو في التحقيق.. ونحن لا ننساهم مع كل فنجان قهوة نرفعه نحو الشمس أو القمر.. كما ننتظر الليلة أيضا دفعة أسرى جديدة ستصل هذا المساء، وللضيف حق الضيافة كما تعرفون، والقهوة هي أعز ما نملك في ليلنا ونهارنا وصبحنا وظهرنا ومساءاتنا.. فهي ذاكرة وعينا لحياة عادية نسيناها ونحن ننتظر..
هنا.. بالضبط هنا.. في فلسطين، شرق المتوسط، نحن الأسرى ننتشر على مساحة الوطن.. نفترش طرقات الوعي.. نخربش بفحمة أو طبشورة.. أو بقايا رغيف محترق خارطة الوطن وحدوده، فقط كي لا ننسى، أو في الحقيقة كي لا تنسوا أنتم..!
أخبارنا؟! لا جديد.. لا زلنا نواصل رسم الحمام والسنابل والياسمين والمقاومة.. ونروي ذكريات حب لا زلنا نقنع أنفسنا كل ليلة بأنه ينتظرنا.. من يدري!.. ولهذا نواصل غواية الضحك والابتسام..  نتابع الوعد تلو الوعد.. لقد أدمنا الانتظار، ولا ندري بعد تحررنا هل سنجيد حرفة أكثر من حرفة الانتظار تلك.. فهي مهارتنا الأولى.. وربما الوحيدة..
تأتينا الآخبار: انتظروا! سيأتي اليوم.. وننتظر! وننتظر..! وننتظر.! يتلاشى الصوت  ويتلاشى الوعد ونعود إلى أبراشنا، نسند ظهورنا إلى الجدار، إلى أعمدة الخيمة، تهب ريح حارة قادمة من الصحراء.. أو من هناك.. من أعالي الجليل... نمسك كتابا، أو ورقة ونخربش بقلم رصاص.. وأحيانا نحدق فقط في الورقة،  وقد لا نكتب شيئا.. وننتظر.. 
ومع ذلك، و"رغم هذا الدمار العظيم..!" اطمئنوا!  فلا زلنا هنا بخير.. نعم هنا!  بعضنا ليس كما يجب، فنحن بشر أيضا، لنا ما لهم وعلينا ما عليهم، أم نسيتم هذا أيضا!؟.... لكننا في البداية والنهاية حالة، حالة إنسانية، وطنية خاصة، حالة هائلة الأبعاد، عميقة الروح والجروح، عصية على القهر، نعم هكذا..  ربما هي مجرد حالة عناد وطني أو شخصي ليس إلاّ، ليكن .. فقد انتهت حكاية كسرنا منذ أمد بعيد، منذ أن أصبحنا معادلا  لقضية شعب وأمة بكاملها.. ولهذا لا خوف علينا من هوس وولدنات السجانين..  فمهما حاولوا كسر حالة حالتنا هذه لن ينجحوا، لقد اصبحنا بالنسبة لهم، بعد ستين عاما، حالة مستعصية، يعني (Hopeless case)، وماذا بعد!!.. لا شئ، إننا ما زلنا هنا ولم نتحول إلى أوغاد كما أرادوا أو توقعوا.. ما يفعلونه الآن أنهم فقط يواصلون عبثهم وساديتهم لا أكثر.. إنهم يعرفون في أعماقهم بأنهم فشلوا.. لكنهم، مع ذلك، يواصلون وظيفتهم بحكم  العادة أو الطبيعة.. أو الانتقام الهابط لا فرق..
في يومنا هذا، في عيدنا هذا 17  نيسان، صباح الخير  لنا وعلينا هنا، حيث نواصل الانتظار وإطلاق أسراب الحمام.. صباح الخير علينا في كل معتقل وسجن ومركز توقيف وزنزانة وخيمة  وبرش .. مع ملاحظة صغيرة، فقط تذكروا أننا لسنا هنا كي نكون ورقة للمساومة على حق أو بضع حق، ولو كان في بالنا ذلك لما جئنا من حيث المبدأ،  إننا هنا من أجل قضية، وبكلمة أكثر وضوحا إننا نحن القضية..
في هذا اليوم نعايد أنفسنا ونقول.. صباح الخير علينا نحن الأسرى القابضين على جمرنا وعلى أبراشنا هنا، صباح القهوة التي تنتظروبقايا سيجارة تدور بيننا كل مساء..
وسلام علينا يوم ولدنا ويوم اعتقلنا ويوم انتظرنا ويوم نموت و..... والسلام!.

 أسير فلسطيني
17 نيسان 2014