الحيز المكاني.. مساحات ضيقة تتسع لآلاف الأسرى الفلسطينيين في ظروف صعبة وقاسية..

السجون في دولة الاحتلال ليست أمكنة وفضاءات مكبّلة تحتجز الحرّيّة لمن يدخلها، بل هي آلة متوحّشة بشكلها وقوانينها وإجراءاتها وسياساتها، مصمّمة للفتك والقتل كما البندقية المحمولة في يد حرّاسها، وكما العقل الذي يديرها، وعلى جدرانها وفي ساحاتها الممتدّة يكون الصراع على أشدّه ما بين إرادة الحرّيّة والحياة التي يمثّلها المعتقلون، وإرادة التدمير التي ترعاها منظومة وظّفت كلّ مقدراتها لامتهان حياة البشر.
 

إنّ الحيّز المكانيّ للسجون في جوهره ليس جدراناً وأبنية محكمة الإغلاق فقط، تحول دون قدرة السجناء على التواصل مع حيّزهم الطبيعيّ، ومكاناً لإمضاء عقوبة متناسبة مع مخالفة قانونيّة ما -كما تدّعي دولة الاحتلال-، بل تعدّى ذلك ليكون حلقة في سلسلة ممتدّة من الأدوات والإجراءات المدمّرة ليس لجسد المعتقل فقط، بل تمتدّ لروحه وعقله لتجعل منه عبرة لكلّ مَن يتجرّأ على الرفض والمواجهة لإجراءات الاحتلال، وامتداداً لهذا الأفق تكون المحاكم العسكريّة وكلّ آليّاتها الشكليّة التي لا تحقّق الحدّ الأدنى من العدالة، وأوسع من ذلك يتمّ توظيف مجمل الجهاز القضائيّ للغاية ذاتها، فيما تخضع الأحداث الداخليّة بالسجون للقواعد الانضباطيّة، أو ما يُسمّى قواعد مصلحة السجون التي تُمعن في التعسّف، وهي جزء من نظام أوسع هدفه الردع والعقوبات واضطهاد الأسرى.

اعتمدت هذه الورقة في وصفها السجون وتفاصيل الحياة فيها بشكل أساسيّ على مقابلات -أُجريت خصّيصاً لهذه الورقة- مع أسرى قضوا ما يزيد عن 10 أعوام في المعتقلات، وعلى أرشيف يحتوي على مئات الزيارات التي أجرتها مؤسّسة الضمير على مدار أعوام لسجون الاحتلال المختلفة، التي وثّقت فيها مختلف ممارسات الاحتلال تجاه الأسرى، وطبيعة حياة الأسرى اليوميّة في السجون، وكلّ ما يواجهونه من سياسات. ومن جهة أخرى، وفي إطار محاولة رصد التغيّرات العمرانيّة الحاصلة على هذه السجون، فقد حاولت مؤسّسة الضمير استخدام عدد من الصور الجوّيّة لسجون الاحتلال المذكورة.

في ظلّ ما ذُكر، تأتي هذه الورقة لتسلّط الضوء على أربعة سجون، وهي: سجن الدامون، والنقب، وإيشل، وعوفر، متناولةً تفاصيل هذه السجون، ومساحاتها، وما يعيشه الأسرى من خصوصيّةٍ داخل كلّ واحد منها، بدءاً من ظروف الغرف التي  يقبعون فيها لسنوات طويلة، مروراً بتفاصيل حياتهم اليوميّة، وسعيهم للتغلّب على قهر السجّان، وصولاً إلى أسمى لحظات الفرح، وأقسى لحظات الحزن التي يمكن لأيّ أسير أن يمرّ بها خلال فترة اعتقاله.