الاعتقال الإداري...ملف سري يلاحق الفلسطينيين

ملفٌ سريّ...هو كل ما يعرفه المعتقل الإداري في سجون الاحتلال عن وضعه القانوني، مواد سرية كفيلة بالزج بالمعتقلين الإداريين في السجون لسنواتٍ طويلة، دون تحديد المدة، حيث تمارس قوات الاحتلال سياسة الاعتقال الإداري في الأرض الفلسطينية المحتلة بشكل ممنهج، وعلى نطاق واسع بحق المئات من المدنيين الفلسطينيين سنوياً.

تلجأ قوات الاحتلال إلى إصدار أوامر الاعتقال الإداري مباشرة عقب الاعتقال، أو بعد فشلها في توجيه لائحة اتهام بحق المعتقل، واحياناً، بعد قضاء المعتقل فترة العقوبة المقررة بحقه بموجب حكم قضائي وفي بعض الحالات يكون الاعتقال الإداري متزامناً مع تقديم دعوى قضائية بحق المعتقل.

يقع إصدار أوامر الاعتقال الإداري دون تحديد عدد مرات التجديد للمعتقلين من سكان الضفة الغربية بيد الحاكم العسكري الإسرائيلي للمنطقة، فيما يقع إصداره ضمن صلاحيات وزير الأمن الإسرائيلي للمعتقلين من سكان القدس، وبحسب الأوامر العسكرية يسمح إصدار أمر اعتقال إداري لمدة تصل إلى ستة أشهر قابلة للتجديد إلى أجلٍ غير مسمى. وبخصوص المعتقلين من قطاع غزة، فيجري اعتقالهم بموجب قانون المقاتل غير الشرعي، حيث يمنح هذا القانون رئيس هيئة أركان جيش الاحتلال الإسرائيلي الحق بإصدار أمر اعتقال مبني على مواد سرية غير محدد المدة.

الاعتقال الإداري...ما بين القانون والواقع

لقد نصت اتفاقية جنيف الرابعة على إمكانية اعتقال المدنيين إدارياً وفقاً لشروط خاصة، حيث نصت المادة (78) على أنه:" إذا رأت دولة الاحتلال لأسباب أمنية قهرية أن تتخذ تدابير أمنية إزاء أشخاص محميين، فلها على الأكثر أن تفرض عليهم إقامة إجبارية أو تعتقلهم. تتخذ قرارات الإقامة الجبرية أو الاعتقال طبقاً لإجراءات قانونية تحددها دولة الاحتلال وفقاً لأحكام هذه الاتفاقية. وتكفل هذه الإجراءات حق الأشخاص المعنيين في الاستئناف. ويبت بشأن هذا الاستئناف في أقرب وقت ممكن. وفي حالة تأييد القرارات، يعاد النظر فيها بصفة دورية، وإذا أمكن كل ستة شهور، بواسطة جهاز مختص تشكله الدولة المذكورة.." وبتحليل نص المادة نجد أن الشرط الأول اللازم لاستخدام الاعتقال الإداري هو وجود أسباب أمنية قهرية، بمعنى أن يكون في حالات الطوارئ الخاصة والاستثنائية. كما وجاء الاعتقال وفقاً لهذه المادة كملاذ أخير، أي أنه ليس الخيار الأول أمام دولة الاحتلال، ويسبق اعتقال المدنيين فرض الإقامة الجبرية عليهم، مما يعني أن الاعتقال وفقاً لهذه المادة يفترض أن يكون الخيار الأخير أمام دولة الاحتلال أثناء حالة الطوارئ.

أما بخصوص القانون الدولي لحقوق الإنسان، فيحرم العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية توقيف أو اعتقال الأشخاص تعسفياً، ويكفل حق الأشخاص في الحرية، كما تنص المادة (9) من العهد على وجوب إبلاغ أي شخص يتم توقيفه بأسباب التوقيف وبأية تهم توجه إليه.

وبالرجوع إلى الكيفية التي تستخدم فيها دولة الاحتلال الإسرائيلي سياسة الاعتقال الإداري، نرى أنها تنتهك بشكل واضح كل من القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، حيث تلجأ سلطات الاحتلال لاستخدام الاعتقال الإداري بشكل متواصل وممنهج دون وجود أي أسباب أمنية قهرية حقيقية، كما أنها تلجأ للاعتقال كخيار أول وأخير ضد الفلسطينيين لقمعهم وإحكام السيطرة عليهم، كما وتستخدم سلطات الاحتلال الاعتقال الإداري كإجراء عقابي في كثير من الأحيان وليس كتدبير احترازي.

كما أن الهدف من الاعتقال الإداري بحسب القانون الدولي هو لمنع خطر مستقبلي يُتوقع أن يشكله الشخص بالمستقبل وليس عقوبة على فعل ارتكبه الشخص في الماضي، وبالعودة لممارسة سلطات الاحتلال لسياسة الاعتقال الإداري، نجد أنها تستخدم هذه السياسة كإجراء عقابي وليس لمنع خطر مستقبلي.

لقد أوجب القانون الدولي الإنساني من خلال اتفاقية جنيف الرابعة دولة الاحتلال على مراجعة أوامر الاعتقال الصادرة وأتاح إمكانية استئنافها من قبل المعتقل، إلا أنه بالرجوع إلى آلية المراجعة القضائية التي تقوم بها محاكم الاحتلال العسكرية على أوامر الاعتقال الإداري التي يصدرها القائد العسكري، نجد أن هذه المراجعة شكلية، حيث أن المواد التي تدعي سلطات الاحتلال أنها تشكل أساس للاعتقال هي مواد سرية لا يمكن للمعتقل أو محاميه الاطلاع عليها، وبالتالي لا يمكن لمحامي الدفاع تفنيد الادعاءات، لأنها ليست من الأساس ادعاءات مباشرة وعلنية، وإنما مواد سرية تقدمها مخابرات الاحتلال، يراجعها القاضي العسكري، ويصدر قراره بتثبيت الاعتقال الإداري، وبالتالي لا يتوفر للمعتقل الضمانات اللازمة للدفاع عن نفسه مما يخالف بشكل مباشر المادة (11) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.[1]

"إن الحق في الدفاع هو الوسيلة القانونية والأساسية اللازمة لتحقيق العدالة الجنائية، فهي التي تمكن القاضي من إصدار حكم قانوني مطابق للعدالة، وهو الأساس الذي يبنى عليه التعرف على أدلة الدعوى ومناقشتها مناقشة حرة جدية والرد عليها بحيث يتمتع بها كلا طرفي الدعوى"[2]، وطالما كان الملف سرياً ويمنع على المعتقل ومحاميه الاطلاع عليه، يعني أنه لا يمكن توفير دفاع فعال ولا تتوفر إمكانية مناقشة الأدلة من طرف المعتقل ومحاميه، وبالتالي يكون المعتقل الإداري في سجون الاحتلال محروم من حقه الأساسي في الدفاع.

لقد أكدت اللجنة المعنية بحقوق الإنسان في ملاحظاتها الختامية على تقرير دولة الاحتلال على أن التدابير التي تتخذها الدولة أثناء حالة الطوارئ والتي لا تتقيد بأحكام العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية هي تدابير ذات طابع استثنائي ومؤقت، ويجب أن تُتخذ في أضيق الحدود التي يتطلبها الوضع، كما أكدت على أنه يجب على دولة الاحتلال الإسرائيلي التعجيل في إعادة النظر في تشريعاتها الناظمة لحالة الطوارئ، ووضع حد لممارسة الاحتجاز الإداري ولاستخدام الأدلة السرية في دعاوى الاحتجاز الإداري، وضمان سرعة توجيه التهم للأفراد الخاضعين لأوامر الاحتجاز الإداري أو إخلاء سبيلهم.[3]

الاعتقال الإداري كإجراء عقابي

لا تكتفِ سلطات الاحتلال باعتقال المئات من المدنيين الفلسطينيين إدارياً دون تهمة أو محاكمة، بل وتسعى لتجديد اعتقالهم الإداري بشكل متواصل ولمرات عديدة، دون أن يعلم المعتقل تاريخ الإفراج عنه، حيث يصدر أمر تجديد المعتقل الإداري قبل أيام قليلة من موعد الإفراج عنه، أو في ذات اليوم المقرر فيه الإفراج عنه، وسبق وأن اتبعت دولة الاحتلال سياسة الإفراج عن المعتقل بعد انتهاء أمر الاعتقال الصادر بحقه وأصدرت أمر اعتقال آخر وهو على باب السجن، ليعاد اعتقاله وزجه في المعتقل بعد دقائق من الإفراج عنه. كما ونتيجة لعمل مؤسسة الضمير القانوني، ورصدها وتوثيقها لانتهاكات الاحتلال بحق المعتقلين والأسرى الفلسطينيين، رصدت مؤخراً تزايد سياسة الاحتلال في إصدار أوامر اعتقال إداري بحق أسرى فلسطينيين أنهوا فترة اعتقالهم بناء على لائحة اتهام، أو أن تقوم بإصدار أمر اعتقال إداري بحق المعتقل، وعند انتهاء مدة أمر الاعتقال الإداري تقوم بتقديم لائحة اتهام بحقه ليتم محاكمته عليها.

حالة المعتقل محمد زغاري

اعتقل محمد زغاري بتاريخ 14/6/2017 وصدر بحقه أمر اعتقال إداري لمدة 6 أشهر بادعاء أنه يشكّل خطر على أمن المنطقة، وجرى تجديد اعتقاله الإداري لستة أشهر أخرى تنتهي بتاريخ 12/6/2018، وادعت المحكمة العسكرية أن هناك أسباب مقنعة للإبقاء على اعتقاله طوال هذه المدة. ومرة أخرى جُدد اعتقاله الإداري لستة أشهر، وفي جلسة تثبيت أمر الاعتقال الأخير قررت المحكمة تقصير المدة لخمسة أشهر بدل من ستة، ورفضت محكمة الاستئناف العسكرية الاستئناف المقدم من قبل محامي الدفاع للإفراج عن المعتقل. وبعد أن قضى المعتقل محمد قرابة العامين رهن الاعتقال الإداري، وقبل موعد الإفراج عنه ببضعة أيام، حولت سلطات الاحتلال المعتقل للاستجواب وقدمت النيابة العسكرية لائحة اتهام بحقه لتجري محاكمته بناءً على لائحة الاتهام.

إن حالة الأسير محمد تظهر مدى تعسف سلطات الاحتلال في استخدام سياسة الاعتقال الإداري كبديل عن المحاكمة، حيث تسعى لضمان بقاء المعتقل الذي تدعي أنه يشكل خطر رهن الاعتقال دون توفر أي شبهات حقيقية ضده، وعندما يصبح هناك أدلة كافية كانت قد جمعتها أثناء مكوث المعتقل في الاعتقال الإداري تقوم بتقديم لائحة اتهام بحقه، الأمر الذي يكشف نهج سلطات الاحتلال في اعتقال الفلسطينيين إدارياً دون وجود شبهات جادة يمكن محاكتهم بناءً عليها.

حالة المعتقل مصطفى زغاري

تم اعتقال مصطفى زغاري ومحاكمته وإدانته بادعاء "استهداف الجنود بالحجارة"، وحكم بالسجن لمدة 7 أشهر فعلي و6 أشهر مع وقف التنفيذ لمدة 3 سنوات، وبعد انتهاء مدة السبعة أشهر، أصدر ما يسمى بقائد المنطقة العسكري أمر اعتقال إداري بحقه لمدة 6 أشهر بادعاء أنه يشكل خطر على أمن المنطقة. فعلى الرغم من أن مصطفى قضى مدة حكمه كاملة، إلا أن سلطات الاحتلال ادعت أن خروجه يشكل خطر وبالتالي عملت على إبقاؤه رهن الاعتقال الإداري، وهو ما يخالف بشكل واضح ما نصت عليه اتفاقية جنيف الرابعة بأن يكون الاعتقال لسبب أمني قهري، كما وينتهك ضمانات المحاكمة العادلة من حيث أن المعتقل لا يمكنه الاطلاع على المواد السرية وبالتالي لا يمكنه مناقشة وتفنيد هذه المواد التي قد تكون مشابهة للتهم التي وجهت له ضمن لائحة الاتهام مما يقود إلى أن المعتقل يعاقب على ذات التهم مرتين الأمر الذي يخالف كافة المواثيق والأعراف الدولية.

إن حالة المعتقل مصطفى تظهر بشكل جلي كيف تستخدم سلطات الاحتلال الاعتقال الإداري كإجراء عقابي وليس لمنع خطر مستقبلي، حيث أن المعتقل يقبع داخل السجن منذ 7 أشهر فكيف يُتوقع أنه يشكّل خطر مستقبلي على "أمن الدولة" وهو داخل السجن؟ إن هذه الحالة توضح تعسّف سلطات الاحتلال في استخدام الاعتقال الإداري في انتهاك واضح للاتفاقيات والمواثيق الدولية التي تجرّم الاعتقال التعسفي.

 

تحتجز سلطات الاحتلال حالياً ما يقارب 460 معتقلاً إدارياً موزعين على ثلاثة سجون وهي عوفر، مجدو، والنقب وهو مخالف لما نصت عليه اتفاقية جنيف الرابعة بوجوب أن تقع السجون داخل الأراضي المحتلة، كما وتتزايد حالات الاعتقال الإداري أثناء الهبات والانتفاضات الشعبية حيث تستخدم سلطات الاحتلال هذه السياسة لقمع وترهيب الفلسطينيين، فأصدرت قوات الاحتلال منذ العام 1967، ما يزيد عن (50,000) أمر اعتقال إداري، 24 ألفاً منها صدرت ما بين العامين 2000 و2014. وأثناء انتفاضة الحجارة، وصل عدد المعتقلين إدارياً في العام 1989 إلى ما يزيد على (1,700) معتقل، وفي العام 2003 إبان انتفاضة الأقصى بلغ عدد المعتقلين إدارياً (1,140) معتقلاً. ومنذ الهبة الشعبية عام 2015 حتى نهاية العام 2018، أصدرت سلطات الاحتلال 5068 أمر اعتقال إداري بين أمر جديد وتجديد لأمر.

إن الاعتقال الإداري بالصورة التي تمارسها سلطات الاحتلال يشكل ضرباً من ضروب التعذيب النفسي، ويرقى لاعتباره جريمة ضد الإنسانية، وجريمة حرب بموجب ميثاق روما، الذي يجرّم حرمان أي أسير حرب، أو أي شخص مشمول بالحماية من حقه في أن يحاكم محاكمة عادلة ونظامية، كما أن جلسات المحاكمة في الاعتقال الإداري تجرى بشكل غير علني، وبالتالي يحرم المعتقل من حقه في الحصول على محاكمة علنية، الأمر الذي يخالف ما نص عليه العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي كفل حق المعتقل في المحاكمة العلنية.

إن أول وأهم ضمانة من ضمانات المحاكمة العادلة هي أن يُبلَّغ المعتقل وبلغة يفهمها بطبيعة التهم الموجهة إليه، ليتمكن من إعداد دفاعه، أما المعتقل الإداري، فمنذ لحظة اعتقاله وحتى الإفراج عنه لا يتمكن من معرفة سبب اعتقاله، وكل ما يتردد على مسامعه هو أن هناك مواد سرية تشير إلى أنه "يشكل خطر على أمن المنطقة"، وفي ظل المحاكم الصورية التي تعقد "لمراجعة" اعتقاله الإداري، لا يكون أمام المعتقل سوى انتظار تجديد أمر اعتقاله الإداري لمرات عدة ولأجل غير مسمى، أو الإفراج عنه عندما تقرر مخابرات الاحتلال ذلك، دون تمكنه من الدفاع عن نفسه، أو تفنيد الشبهات الموجهة ضده، مما يؤكد أن الاعتقال الإداري هو اعتقال تعسفي يتوجب مسائلة ومحاسبة مرتكبيه، وتعويض المعتقلين عن احتجازهم التعسفي وغير القانوني وفقاً للقانون الدولي.

 

 

 



[1] المادة (11) فقرة (1): كلُّ شخص متَّهم بجريمة يُعتبَر بريئًا إلى أن يثبت ارتكابُه لها قانونًا في محاكمة علنية تكون قد وُفِّرت له فيها جميعُ الضمانات اللازمة للدفاع عن نفسه.

[2] الهبئة المستقلة لحقوق الإنسان، دليل رصد ضمانات المحاكمة العادلة وفق القواعد الدولية، والقوانين الوطنية في فلسطين، 66.

[3] اللجنة المعنية بحقوق الإنسان، الملاحظات الختامية بشأن التقرير الدوري الرابع لإسرائيل (2014)، 6.