لم تتوانى سلطات الاحتلال الاسرائيلي يوماً ما عن نهجها في حرمان الأسرى الفلسطينيين من أبسط حقوقهم الأمر الذي شكل دائماً بوصلة للأسرى ونضالاتهم المستمرة، فناضلوا من خلال الاضرابات عن الطعام وغيرها من الطرق حتى تمكنوا من الحصول على الورقة والقلم في المعتقلات، واستمرت نضالاتهم حتى وصلت أوجها عام 1992 وذلك بعد الاضراب الشهير عن الطعام الذي خاضه الأسرى والذي تبلورت على إثره فكرة تمكين الأسرى من التعلم بشكل جماعي فانتقلت قضية التعليم من خانة الحالات الفردية التي كان يتقدم فيها الأسرى إلى المؤسسات التعليمية بشكل منفرد إلى الحالات الجماعية خاصة وأن أعداد الأسرى الذين رغبوا باستكمال تعليمهم كانت في تزايد.
حتى تاريخ توقيع اتفاقية اوسلو كانت تجربة الأسرى في السجون تجربة غنية اتسمت بنضال الأسرى المستمر حتى تمكنوا من إدخال الكتب وإنشاء المكتبات في السجون، والتزموا بحضور الجلسات الثقافية التي تناولت العديد من القضايا الثقافية والاجتماعية والوطنية، إلا أن توقيع اتفاقية أوسلو وخروج أعداد كبيرة من الأسرى من السجون أدى بطريقة أو بأخرى إلى إضعاف الحركة الأسيرة، الأمر الذي أثر على البنية الثقافية وتسبب بتراجعها شيئاً فشيئاً من خلال تغير وتيرة ومحتوى الجلسات الثقافية، وضعف رغبة الحركة الأسيرة في تحقيق تغييرات جذرية في السجون –بسبب قلة أعداد الأسرى في السجون-. ولا يمكن القول بأن الحركة الأسيرة هي فقط من تأثرت حيث أشار العديد من الأسرى إلى أن الدور الذي اعتادت اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن تلعبه قد تغير أيضاً بشكل كبير في منتصف التسعينات، حيث لعب الصليب الأحمر دوراً مهماً في ادخال بعض الكتب والمواد التعليمية، والعاب الذكاء –خاصة إلى أقسام الأشبال-، إلا أنه بعد منتصف التسعينات بدأت مبادرات الصليب الأحمر –في هذا الشأن- تضعف حتى أصبحت شبه معدومة في بعض السجون.
في أعوام التسعينات –وبالأخص بعد اضراب عام 1992- أصبحت قضية تعليم الأسرى في السجون أكثر تنظيماً حيث أصبح من المسموح للأسرى بشكل رسمي أن يتقدموا لامتحان الثانوية العامة –فقط الفرع الأدبي- والدراسة في الجامعة المفتوحة الاسرائيلية وذلك ضمن تخصصات محدودة وهي: العلوم الانسانية، وعلم الاجتماع، والإدارة والإقتصاد، وعلم النفس، والعلوم السياسية. وكانت هذه العملية تتم من خلال إدارة مصلحة السجون. إلا أن سماح إدارة مصلحة السجون للأسرى بالتعلم لم يأتِ مع تسهيلات جمة، حيث عمدت ادارة مصلحة السجون إلى عرقلة العملية التعليمية من خلال حرمانها للعديد من الأسرى الالتحاق بالجامعة بحجة وجود مانع أمني أو بحجة اكتمال العدد أو غيرها من الأسباب، كما أنها في كثير من الأحيان عمدت إلى تأخير تسليم المواد التعليمية للأسرى أو نقلهم بشكل متكرر أثناء الفصل الدراسي أو في مواعيد الامتحانات الأمر الذي تسبب في أكثر من حالة التسبب بضياع الفصل الدراسي على الأسير الطالب، وفي حالات معينة كان الحرمان من التعليم أحد العقوبات الفردية التي تفرض على الاسرى في حال مخالفتهم لانظمة مصلحة السجون الاسرائيلية .
وبدأت هذه التضييقات تزداد شيئاً فشئياً خاصة بعد أسر الجندي الاسرائيلي "جلعاد شاليط" حتى وصلت التضييقات ذروتها عام 2011 وذلك عقب خطاب رئيس الحكومة الإسرائيلية -آنذاك- بنيامين نتينياهو والذي قال فيه بأن "الحفلة انتهت" وأنه لن يكون هناك أسرى جدد يحملون شهادات بكالوريوس وماجستير متحصلة في السجن. ومع هذا الخطاب مُنع تعليم الأسرى الرسمي في السجون، حيث تم توقيف برنامج تقديم امتحان الثانوية العامة وبرنامج الدراسة في الجامعة الإسرائيلية المفتوحة. وعلى الرغم من أن بعض الأسرى قد تقدموا بشكوى إلى المحكمة العليا الإسرائيلية احتجاجاً على حرمانهم من التعليم خاصة وأنهم كانوا على وشك التخرج، إلا أن قرار المحكمة كان مسانداً لخطوات الحكومة الاسرائيلية في هذا الشأن حيث أكدت المحكمة على أن تعليم الاسرى هو امتياز وبالتالي يجوز سحب هذا الامتياز من الأسرى. وتجدر الإشارة إلى أن خطاب نتينياهو لم يكن حجر الأساس في حرمان الأسرى من تعليمهم حيث أن إدارة مصلحة السجون كانت قد ألغت التعليم في معظم السجون منذ عام 2008، وما كان خطاب نتينياهو إلا إعلاناً لما كان قد بدأ بالفعل في السجون.
في غمار هذه المعركة التعليمية والثقافية التي خاضها الأسرى برزت أهمية البدائل التعليمية فحاول الأسرى جسر هذه الفجوة من خلال الجلسات الثقافية، وجلسات محو الأمية، والدورات التعليمية، ومن خلال انشاء مكتبات في السجون وادخال الصحف والمجلات، خاصة وأن الكثير من هذه البدائل ليس بالأمر الجديد إلا أن أهميتها برزت بشكل خاص بعد حرمان الأسرى من الالتحاق بالجامعة الإسرائيلية المفتوحة. بالإضافة إلى هذا فقد لعب الأسرى دوراً مهماً في العملية التعليمية من خلال لعبهم دور المعلمين لبعضهم البعض فكان الأسرى يبادرون إلى تعليم بعضهم البعض ومشاركة ما يملكونه من علم أو لغات أو غيرها. وتمكنوا فيما بعد من التفاهم مع الوزارات الفلسطينية ذات الشأن وتمكنوا من تقديم امتحان الثانوية العامة في السجون، حيث تقدم لامتحان الثانوية العامة على مدار الأعوام من 2014 وحتى عام 2019 ما يقارب 5850 أسير، ونجح منهم ما يقارب 3600 أسير. ومما تجدر الإشارة إليه أن العديد من الأسرى ممن لم يسجل لهم نجاح في الامتحان كان يعود إلى أسباب مختلفة منها عدم استيفاء متطلبات التقدم لامتحان الثانوية العامة في السجون.
وكذلك تفاهم الأسرى مع الجامعات الفلسطينية وانشؤوا برامج تعليمية ضمن اطار برنامج البكالوريوس والماجستير وذلك في تخصصات معينة، حيث يبلغ عدد الأسرى الملتحقين ببرنامج البكالوريوس في جامعة القدس المفتوحة حتى عام 2020، 987 أسير موزعين على تخصصات الخدمة الاجتماعية والاجتماعيات واللغة العربية والتربية الاسلامية وذلك في سجون النقب ونفحة وريمون وعسقلان وجلبوع. أما جامعة القدس –أبو ديس- فيبلغ عدد الأسرى الملتحقين في برنامج البكالوريوس فيها سبعين أسيراً وهم في سجن هدريم ضمن تخصصي التاريخ والعلوم السياسية. أما فيما يتعلق ببرنامج الماجستير فإن دراسته محصورة بتخصص الدراسات الاسرائيلية وذلك فقط في سجن هدريم، ويبلغ عدد الأسرى الملتحقين بالبرنامج 110 أسيراً وتخرج على مدار السنوات 46 أسيراً من هذا التخصص[1].
وحتى يومنا هذا لا زالت التضييقات مستمرة لتضييق الخناق على الأسرى حيث تمنع سلطات الاحتلال إدخال الكتب التعليمية إلى السجون منذ سنوات، وتقوم بين الفينة والأخرى بمصادرة أعداد من الكتب التي تمكن الأسرى من إدخالها إلى السجون ومثالها ما حصل في سجن هداريم عام 2018 حيث قامت سلطات الاحتلال بمصادرة ما يقارب 2000 كتاب. علاوة على ذلك فإنها وحتى يومنا هذا تقوم بنقل الأسرى بشكل متكرر وتعاقب أي أسير تكتشف أنه يحاول التعلم خارج أسوار المعتقل.
ولا يختلف وضع الأسرى الأشبال والأسيرات كثيراً عن وضع الأسرى الذي أشرنا إليه سابقاً، حيث يتعرض الأشبال والأسيرات أيضاً للتضيقات في هذا المجال، فعلى الرغم من توجه الأسرى الأشبال إلى القضاء الاسرائيلي والحصول على قرار يجيز لادارة مصلحة السجون السماح للأسرى الأشبال باستكمال تعليمهم وفقاً للمنهاج الفلسطيني، إلا أن القرار أبقى اليد العليا لإدارة مصلحة السجون في تفسير هذا القرار وفي تطبيقه بما يتلاءم مع المقتضيات الأمنية. وعلى الرغم من قرار المحكمة إلا أن الواقع يخالف هذا النص، حيث تقوم ادارة مصلحة السجون بادخال معلمين من وزارة المعارف الاسرائيلية لتعليم مواد دراسية معينة للأشبال تقتصر في العادة على مادتين أو ثلاثة فقط، ويعاني الأشبال من عدم انتظام المعلمين في تقديم الحصص في العديد من الأحيان الأمر الذي من شأنه أن يؤثر على الحياة التعليمية لهم.
أما بالنسبة للأسيرات القاصرات فقد اعتادت إدارة مصلحة السجون إدخال ملعمة فلسطينية للأسيرات عن طريق وزارة التربية والتعليم الاسرائيلية وذلك ثلاث مرات أسبوعياً إلا أن الأسيرات قد أشرن في هذا السياق إلى أن المعلمة لم تكن ملتزمة بشكل كامل في الحضور. ودفع هذا الأمر الأسيرات مؤخراً إلى التفاهم مع الجهات الفلسطينية وتمكنوا من التقدم لامتحان الثانوية العامة إلا أن هذا يبقى غير كافي حيث تُمنع الأسيرات من استكمال تعليمهن الجامعي في السجن، وفي ظل قلة عدد الأسيرات – ممن يملكن الشروط اللازمة- فإن خيار التفاهم مع الجامعات الفلسطينية غير متاح كما هو الحال بالنسبة للأسرى الذكور. ولا تكتفي إدارة مصلحة السجون بكل هذا، بل تعرقل دخول الكتب بشكل عام للأسيرات، وتحظر دخول أي كتب تعليمية، ورفضت فتح أحد غرف السجن كغرفة خاصة للمكتبة واكتفت بالسماح للأسيرات باستخدام غرفة المقصف لوضع الكتب المتوفرة.
ويمكن القول بأن التضييقات المستمرة التي تنتهجها سلطات الاحتلال تأتي على الرغم من كفالة الحق في التعليم للأسرى وللأشخاص المحرومين من حريتهم في العديد من المواثيق الدولية كاتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب، والتي تنص في المادة الرابعة والتسعين منها أن: "على الدولة الحاجزة أن تشجع الأنشطة الذهنية والتعليمية والترفيهية والرياضية للمعتقلين، مع ترك الحرية لهم في الاشتراك أو عدم الاشتراك فيها. وتتخذ جميع التدابير الممكنة التي تكفل ممارستها وتوفر لهم على الأخص الأماكن المناسبة لذلك. وتمنح للمعتقلين جميع التسهيلات الممكنة لمواصلة دراستهم أو عمل دراسات جديدة. ويكفل تعليم الأطفال والشباب...".
بالإضافة إلى هذا فإن القواعد النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء قد أشارت في المادة السابعة والسبعين منها على أن يتم اتخاذ اجراءت لمواصلة تعليم جميع السجناء القادرين على ذلك، وتشير كذلك إلى وجوب أن يكون تعليم للأميين والأحداث. علاوة على ذلك فإن الحق في التعليم بشكل عام هو من الحقوق المكفولة في العديد من المواثيق الدولية كالاعلان العالمي لحقوق الانسان، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
[1] هذه الاحصائيات محدثة وتستند إلى احصائيات هيئة شؤون الأسرى والمحررين. مقابلة مع سياف أبو سيف مسؤول ملف التعليم في هيئة شؤون الأسرى سابقاً ومدير هيئة شؤون الأسرى في جنين بتاريخ ٢٠ كانون الثاني ٢٠٢٠