
الاعتقال:
فجر الخامس والعشرين من شباط الماضي، وعلى وقع طرقات قوية على أبواب منزلها في قرية كفر اللبد قضاء طولكرم، استيقظت عائلة الأسيرة ريماء بلوي على طريقة مرعبة. وعندما هرعوا لفتح الأبواب، اكتشفوا أن الطارقين هم قوة مدججة من جيش الاحتلال. بعد اقتحام المنزل، طلب الجنود هويتها، وأخذتها مجندة إلى غرفة النوم لإجراء تفتيش جسدي، قبل أن تقرر اعتقالها دون يسمح لها بوداع عائلتها. لم يُسمح لها حتى بتغيير ملابسها أو ارتداء جاكيت يقيها البرد، كما مُنعت من أخذ أدويتها رغم أنها حامل في شهرها الثالث. وبعد الاعتقال قامت القوات بتقييد يديها بلاصق بلاستيكي، وعصبوا عينيها، قبل أن يُدخلها الجنود إلى الجيب العسكري، لتبدأ بذلك رحلة اعتقالها المجهولة، دون أن تعرف وجهتها أو المحطة المقبلة التي تنتظرها.
علمنا لاحقًا من خلال زيارة المحامية لها في سجن الدامون أن الوجهة التالية للأسيرة ريماء بعد الاعتقال كانت معسكرًا عسكريًا، ثم نقلت إلى مركز توقيف تابع لشرطة مستوطنة "أرائيل" المقامة على أراضٍ عدة قرى في مدينة سلفيت (مردا، اسكاكا، كفل حارس). هناك، دخلت إلى قسم التحقيق حيث واجهت محققًا بمفردها دون وجود مجندة، وتعرضت لأساليب تهديد، صراخ، ومحاولات تخويف، واستمر التحقيق لقرابة ثلاث ساعات وهي جالسة على كرسي، مكبلة اليدين والرجلين، مع إزالة عصبة العينين فقط. بعد ذلك، تم نقلها إلى سجن هشارون الذي يُعرف بظروفه الإنسانية القاسية، حيث وضعت في زنزانة باردة وقذرة. وعندما أخبرتهم بأنها حامل، تم عرضها على طبيب في عيادة السجن، إلا أن الطبيب أفاد بأن ذلك ليس من اختصاصه، فتم نقلها إلى مستشفى خارجي لإجراء فحوصات تثبت حملها. بعد التأكد من حالتها، أعادوها إلى سجن هشارون، حيث أمضت ليلتها الأولى كحامل في ظروف قاهرة.
في اليوم التالي، تم نقلها إلى سجن الدامون، ليصبح مكان اعتقالها الدائم، حيث لا تقل ظروفه سوءًا عن سجن هشارون، لا من حيث الطعام، ولا المياه، ولا الحياة اليومية، خاصة بالنسبة لامرأة حامل تحتاج إلى رعاية واهتمام خاصين لها ولجنينها في ظل تلك الظروف القاسية.
الاعتقال بتهمة التحريض: أداة الاحتلال لانتزاع حرية الفلسطينيين..
منذ السابع من أكتوبر 2023، شهدت حملات الاعتقال التي يشنها جيش الاحتلال الإسرائيلي تصاعدًا غير مسبوق ضد الفلسطينيين، بناءً على تهمة "التحريض" المرتبطة بنشر منشورات عبر مواقع التواصل الاجتماعي. هذه الحملات شملت المئات من الفلسطينيين، ليصبح ادعاء التحريض أداة يستخدمها الاحتلال كذريعة لاعتقال المجتمع الفلسطيني بأسره في ظل حرب الإبادة الجماعية التي تشهدها غزة.
تستند النيابة العسكرية للاحتلال في قراراتها ضد الفلسطينيين إلى المواد 251 و199 (ج) من الأمر العسكري رقم 1651 لعام 2009. تكمن الإشكالية الرئيسية في هذه النصوص القانونية في كون التعريفات المتعلقة بما يُعتبر تحريضًا، مثل المدح أو التأييد أو التشجيع، مصطلحات فضفاضة تسمح للقضاء والنيابة بتفسيرها بشكل واسع جدًا. هذه الصلاحيات الواسعة أدت إلى اعتبار كلمات مثل الرحمة أو الترحم على الشهداء، بل وحتى نشر صورة للمسجد الأقصى مع عبارة بسيطة عليها، كتحريضية. هكذا يتم عزل هذه العبارات من معانيها الإنسانية العميقة، باعتبارها كلمات تحريضية وعزلها عن مضمونها الإنساني كونها كلمات ذات تعبير انساني عند غالبية الفلسطينيين في مفهوم الشهادة وأماكن العبادة التي تخصهم.
في هذا السياق، قدمت نيابة الاحتلال في محكمة سالم العسكرية لائحة اتهام ضد الأسيرة ريماء بلوي، التي تضمنت العديد من التهم التي وصلت إلى أكثر من 60 منشورًا، قبل أن يتم تقليص العدد إلى منشورات أقل. اعتبرت النيابة هذه المنشورات تحريضًا على العنف وتأييدًا لأحداث السابع من أكتوبر. إلا أن اللافت في قضية ريماء هو أن المنشورات التي تم تضمينها في لائحة الاتهام كانت قد نُشرت في الفترة ما بين 7/10/2023 و24/1/2025، في حين كان اعتقالها في 25/2/2025، مما يثير تساؤلات حول قانونية هذا الاعتقال وتأثير المنشورات القديمة على مفهوم التحريض، الذي يرتبط إلى حد كبير بالأحداث الجارية على أرض الواقع.
من جهة أخرى، يكشف هذا الاعتقال عن تعسف الاحتلال في ملاحقة الفلسطينيين على آرائهم، وهو ما يُعتبر انتهاكًا لأحد أهم حقوق الإنسان، وهو الحق في حرية التعبير. هذا الحق يتم انتهاكه بشكل ممنهج من خلال منظومة القضاء العسكري وقوانينه الجائرة. وفي حالة ريماء، نرى كيف أصبحت في مواجهة حكم بالسجن بناءً على رأيها الشخصي، في وقت تعيش فيه ظروفًا لا إنسانية في سجن الدامون، حيث تختلط مشاعرها بين القلق على حياة جنينها في ظل الظروف القاسية التي تعيشها الأسيرات هناك، دون أي مراعاة لوضعها الصحي أو الإنساني كامرأة حامل، في وقت يلاحقها فيه شبح تهمة التحريض على مدار الساعة.
قيود وسلاسل السجن تنتظر قدوم جنين لم يولد بعد..
ريماء، أم لطفلتين صغيرتين، يافا (سبع سنوات) ولمار (خمس سنوات)، وحامل في شهرها الثالث، تعيش في ظروف قاسية بعد اعتقالها. شقيقها يصف معاناة الطفلتين، اللتين تحتاجان إلى وجود والدتهما بجانبهما، وهو أمر لا يمكن لأحد من أفراد العائلة تعويضه. يمر الوقت، وتملأ الدموع عيون الفتيات الصغيرات اللاتي يبحثن عن حضن أمهن الذي سُلب منهما بفعل الاحتلال، في لحظات النوم أو أثناء لعبهن، وسط تساؤلات مستمرة عن مكان وجود أمهن.
الغياب القسري والألم الناتج عن فقدان الأم، خاصة في هذا العمر، أمر لا يمكن للطفلتين استيعابهما، إذ يبقى السؤال المتكرر: "متى تعود والدتنا؟"، حاضراً في كل لحظة. ومع كل غياب، تدفع الأسرة بأكملها ثمن هذا الاعتقال القاسي، حيث تختبر مشاعر الحزن والفقدان بانتظار عودة الأم، وكأن أطفالاً في مثل هذه الأعمار مطالبون بدفع ثمن غياب الأم، بينما يحتل الاحتلال كل شيء، يسلبهم حتى حقهم في الأمومة.
على الجانب الآخر، تعيش ريماء في سجن الدامون إلى جانب 23 أسيرة منهن 14 أم، يعانين من ظروف قاسية تفتقر إلى أدنى معايير الحياة الإنسانية، من نقص الغذاء والتنكيل وسوء المعاملة، وضعف الرعاية الطبية، والتي ازدادت سوءاً بعد أحداث السابع من أكتوبر في العام 2023 والحملة الشرسة التي تستهدف الأسيرات والأسرى والتضييق عليهم وحرمانهم من أبسط حقوقهم الإنسانية بالحياة الكريمة، وكونها حامل في شهرها الثالث فهي تعيش المعاناة مضاعفة، خوفها من أن يولد جنينها في مكان لا يتوفر فيه أي مقومات للحياة الإنسانية، وحرمانها من رعاية طبية تلائم احتياجها كأم حامل، حيث لا توفر لها إدارة السجن فحوصات دورية أو أي اهتمام بصحتها أو صحة جنينها. حتى الماء، كما تقول ريماء، لا تستطيع أن تشربه بسبب رداءته، كما أن الطعام لا يتناسب مع احتياجاتها كأم حامل أو احتياجات جنينها، ولا توفر لها إدارة السجن المدعمات أو الفيتامينات الضرورية لحملها.