يصادف العاشر من كانون الأول/ديسمبر، احتفال البشرية جمعاء باليوم العالمي لحقوق الإنسان، والذي أعلنته الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1950، كيوم لاستعراض الجهود الدولية المحققة على صعيد احترام، تعزيز وحماية حقوق الإنسان وحرياته الأساسية على المستوى العالمي، باعتبارها جوهر مبادئ الشرعة الدولية لحقوق الإنسان التي أكدت الدول مراراً التزامها القانوني والأخلاقي، وبالتعاون مع الأمم المتحدة، على توطيدها واحترامها لكافة بني البشر. كما تتزامن هذه الذكرى مع مرور 20 عاماً على توقيع اتفاقيات أوسلو، جرى خلالها التضحية بحقوق الإنسان بذريعة تحقيق السلام والأمن، وهو أمر لم يتحقق حتى اليوم. وقد دفع الشعب الفلسطيني، وما يزال، ثمن تلك السياسات بمزيد من مصادرة الحقوق والحريات الأساسية للفلسطينيين، وفي مقدمتها استمرار التنكر لحقهم في تقرير المصير وكافة حقوقهم المدنية والسياسية، فضلاً عن حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
يتزامن اليوم العالمي لحقوق الإنسان هذا العام مع استمرار تدهور حالة حقوق الإنسان العامة على الصعيد الفلسطيني، واستمرار انتهاكات مبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وقواعد القانون الدولي لحقوق الإنسان، المنبثقة عنه، وقواعد القانون الإنساني الدولي في الأرض الفلسطينية المحتلة. وربما يعتبر هذا العام الأكثر سوءاً على مستوى التدهور الكارثي لأوضاع حقوق الإنسان الفلسطينية، والناجمة أصلاً عن استمرار انتهاك السلطات الإسرائيلية المحتلة لحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، كحق جماعي، بما في ذلك الاستمرار في تقويض جهود الأسرة الدولية في ترجمة قرارات الشرعية الدولية، وآخرها اعتماد فلسطين دولة غير عضو في الأمم المتحدة، والتنكر لحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة التي تتيح لهم السيطرة على ثرواتهم ومواردهم الاقتصادية وبناء الكيان الفلسطيني الذي بدون شك سيدعم ويوطد مقاصد الأمم المتحدة على صعيد الأمن والسلم الدوليين، وسينهي أكثر من 65 عاماً من معاناة الشعب الفلسطيني، والناجمة أساساً عن النكبة وما تلاها من انتهاكات جسيمة ومنظمة لحقوق الإنسان، ارتقت لمستوى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وفقاً لقواعد القانون الإنساني الدولي.
لقد كرست سياسات السلطات المحتلة المنهجية وضعاً قائماً على أساس الفصل التام للأراضي الفلسطينية المحتلة عن بعضها البعض، وواصلت ارتكاب جرائمها ضد الفلسطينيين وممتلكاتهم لتزيد من اقتراب الوضع الفلسطيني برمته إلى مستوى النكبة الجديدة. ففي الضفة الغربية، بما فيها مدينة القدس المحتلة، تواصل السلطات الحربية المحتلة، وبدعم متواصل لمجوعات المستوطنين المتطرفة، عمليات التوسع الاستيطاني وابتلاع المزيد من أراضي الفلسطينيين وممتلكاتهم. ويترافق ذلك مع إقرار واقع جدار الضم، الذي يبتلع نحو 58% من أراضي وممتلكات الفلسطينيين، وبشكل حول حياتهم على ما تبقى من تلك الأراضي إلى معازل وباندوستانات، وفي وقت تتواصل فيها عمليات التطهير العرقي لمدينة القدس الشرقية وتهجير سكانها العرب قسرياً وسط غياب أبسط آليات الحماية الدولية للفلسطينيين وممتلكاتهم. وبات التوصيف الدقيق للأوضاع القائمة فيها هو صورة نظام أبارتيد من طراز فريد. وفي قطاع غزة تبدو الصورة أكثر قتامة في منطقة يقطنها نحو 1.8 مليون نسمة، وتصنف كأحد أكبر أنماط الكثافة السكانية عالمياً، حيث تستمر السلطات الإسرائيلية المحتلة في عزلها عن امتدادها الجغرافي المتواصل مع الضفة الغربية المحتلة. وتستمر جرائم القوات الحربية الإسرائيلية في قطاع غزة، تارة عبر اعتداءات عسكرية شاملة، ومن خلال فرض الحصار الشامل غير القانوني على سكان القطاع المدنيين، والتي تمثل عقاباً جماعياً وجرائم ضد الإنسانية بموجب قواعد القانون الإنساني الدولي. وقد عانى الفلسطينيون في القطاع انتهاكاً متواصلاً لحقوقهم وحرياتهم الأساسية جراء تلك الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، التي تسببت في سقوط آلاف القتلى والجرحى، فضلاً عن التدمير المنهجي والمنظم لممتلكاتهم وأعيانهم المدنية، بما فيها المباني السكنية والمرافق الحيوية والبنى التحتية لمدن وقرى ومخيمات القطاع. وتتفاقم الأوضاع الإنسانية وتتردى بسبب القيود الشديدة المفروضة على حرية حركة وتنقل السكان والتجارة من وإلى القطاع، في وقت تتدهور فيه حقوق السكان الاقتصادية والاجتماعية بشكل غير مسبوق، لتصل إلى حافة الكارثة بسبب النقص الشديد في إمدادات الطاقة والوقود والخدمات الأساسية الضرورية للحياة الطبيعية لسكانها. وتستمر مشاعر الإحباط واليأس تتملك الآلاف من البشر الذين باتوا غير قادرين على الحصول على أبسط مقومات الحياة الإنسانية من الغذاء والدواء والمأوى الملائم بسبب تفشي البطالة والفقر والفقر المدقع بين سكانه. وتنعدم أية آفاق حقيقية في الأفق القريب لتدخل فوري وعاجل للمجتمع الدولي لوقف النزيف والمعاناة الإنسانية، والتي لم تكن يوماً ما نتاجاً لكارثة طبيعية أو وباء صحي، بل هي نتاج السياسات المنهجية والمنظمة المستمرة لسلطات الاحتلال الإسرائيلي، والتي تحارب الفلسطينيين في وسائل عيشهم، في ظاهرة فريدة من نوعها للإفلات من العقاب والمساءلة بسبب الحصانة التي توفرها بعض الدول، وتعمل على حماية كافة المتهمين باقتراف جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية من قبل المجتمع الدولي.
ويطل اليوم العالمي لحقوق الإنسان هذا العام مترافقاً مع استمرار حالة الانقسام السياسي الفلسطيني البغيض، الذي استمر على مدار سبعة أعوام بتداعياته المؤلمة التي تزيد من تفاقم وتردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في الأرض الفلسطينية المحتلة، فضلاً عن حالة التدهور المستمرة لحقوقهم المدنية والسياسية. وقد تسلل التفاؤل إلى الفلسطينيين في مثل هذا الوقت من العام الماضي، بعد أن بادرت حركتي فتح وحماس ببعض الخطوات الإيجابية للتقدم نحو إنهاء أسوأ حقبة في تاريخ شعبنا وتحقيق المصالحة الوطنية وتصحيح البوصلة نحو استمرار النضال الفلسطيني لإنهاء الاحتلال وتحقيق تقرير المصير. غير أن ذلك التفاؤل ذهب أدراج الرياح اليوم بعد أن تولد لدى الرأي العام الفلسطيني أن مسألة المصالحة الوطنية الفلسطينية باتت أبعد من أي وقت مضى بسبب غياب الإرادة السياسية الحقيقية. وصار على المواطنين الفلسطينيين أن يدفعوا ثمن زجهم في أتون الصراع السياسي، لتزيد من تدهور وتفاقم حقوقهم المدنية والسياسية، فضلاً عن حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وقد بات يخشى أن تتحول تلك العلامات الفارقة من تاريخ الشعب الفلسطيني اليوم إلى سلوك منهجي يتجه بعيداً ليكرس أسوأ النهايات لشعب ناضل، وما يزال، من أجل الانتصار لقيم السلام والعدل الدوليين وفقاً لقرارات الشرعية الدولية ومبادئ حقوق الإنسان التي ينادي بها الاعلان العالمي لحقوق الإنسان. لقد ناضل الفلسطينيون دوماً من أجل الانتصار لقيم المساواة والكرامة الإنسانية والعدالة ليدكوا آخر حصن من حصون الاستعمار الحديث والاحتلال الحربي لأراضي الغير بالقوة، وتكريس حقهم في تقرير المصير، وإنهاء آخر نموذج عالمي لاحتلال استمر لعدة عقود وسبب المزيد من المعاناة لملايين الفلسطينيين. واليوم بات من المعيب أن يضطر الفلسطينيون إلى اختزال تلك السنوات من تاريخهم ونضالهم من أجل الحرية وتقرير المصير إلى التوسل من أجل حقوقهم في الحياة والمأكل والرعاية الصحية وظروف المعيشة التي تحفظ كرامتهم، فيما يستمر إنكار حقهم الطبيعي في الحرية والتمتع بكافة الحقوق المدنية والسياسية، فضلاً عن حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
إن مواجهة ذلك الواقع الأليم يتطلب من الفلسطينيين، ومن كافة المؤمنين بقيم ومبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على المستوى العالمي، أن يستمروا في نضالهم من أجل الانتصار للضحايا والدفاع المستمر عن حقوق الإنسان والكرامة الإنسانية المتأصلة في بني البشر جميعاً. إن ذلك يلقي بالتزامات قانونية وأخلاقية على المجتمع الدولي من أجل توطيد ميثاق الأمم المتحدة ومبادئ حقوق الإنسان. وعليه يدعو مجلس منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية:
· المجتمع الدولي إلى الوقف الفوري لسياسة منح إسرائيل الحصانة عن كافة انتهاكات القانون الإنساني الدولي والقانون الدولي لحقوق الإنسان، ووقف اقتراف هذه الجرائم بما يوفر الحماية الدولية للسكان الفلسطينيين في الأرض الفلسطينية المحتلة.
· أن تبادر الأطراف السامية المتعاقدة على اتفاقية جنيف الرابعة للعام 1949، والخاصة بحماية المدنيين في أوقات الحرب، بالبحث السريع في إجراءات تطبيق الاتفاقية على الأرض الفلسطينية المحتلة كتمهيد أولي لإنهاء حالة الاحتلال الحربي ودعم قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وفقاً لقرارات الأمم المتحدة.
· المجتمع الدولي وسلطات الاحتلال الإسرائيلي إلى وقف حالة تدهور الأوضاع الإنسانية في الأرض الفلسطينية المحتلة وتقديم كافة الاحتياجات الأساسية للسكان المدنيين.
· القيادة الفلسطينية إلى البدء الفوري في إجراءات الانضمام والمصادقة على المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، بما في ذلك ميثاق روما الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية، كخطوة أولى من أجل ضمان المساءلة وعدم الإفلات من العقاب.
· القيادة الفلسطينية إلى الإصرار على اعتماد مبادئ القانون الدولي كأساس لأية عملية سياسية مستقبلية من أجل تحقيق تقرير المصير للشعب الفلسطيني وبناء الدولة المستقلة.
· حركتي فتح وحماس إلى التوقف الفوري عن كافة الإجراءات التي تعيق الانطلاق نحو المصالحة الوطنية الفلسطينية، بما في ذلك التجاذبات السياسية وانتهاكات حقوق الإنسان، والبدء بخطوات حقيقية تعيد للفلسطينيين كرامتهم المهدورة وتصحح الطريق نحو النضال من أجل حقهم الأساسي في الحرية وتقرير المصير على طريق تعزيز احترام قيم حقوق الإنسان والعدالة للأجيال الفلسطينية القادمة.